اشتعل الخلاف مجددا بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، بعد تقارب دام لأسابيع، وشهد تطورا غير مسبوق في العلاقات بينهما، كان من بين ذلك زيارة -هي الأولى من نوعها- لأعضاء من المجلس الأعلى للدولة إلى مدينة البيضاء للقاء أعضاء من مجلس النواب. تبع ذلك عدة لقاءات متتالية معلنة وغير معلنة جمعت رئيسي المجلسين خالد المشري وعقيلة صالح، تمحورت حول صياغة القاعدة الدستورية والاتفاق على المناصب السيادية، والحديث أيضا عن إنشاء حكومة تسييرية جديدة.
خلاف بعد قرب
بدأ الخلاف بين المجلسين منذ تصويت مجلس النواب على قانون إنشاء محكمة دستورية مقرها بنغازي، تستحوذ على اختصاصات الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في طرابلس، ليعلن خالد المشري فورا تعليق التواصل مع عقيلة صالح، وتعليق أعمال اللجان المشتركة بين المجلسين مشترطا إلغاء قانون المحكمة الدستورية لعودة التواصل.
وأوضح المشري أن القانون صدر بالمخالفة للنصوص الدستوريّة ولكلّ ما توافق عليه المجلسين، موجها في الوقت ذاته خطابات إلى رئيس المحكمة العليا ومستشاريها ورئيس المجلس الأعلى للقضاء وأعضائه وأعضاء الهيئات القضائية، محذرا فيها من خطورة قانون المحكمة الدستورية الذي اعتبره زجّ بالقضاء الليبي في التجاذبات السياسية.
صالح يرد
من جانبه، استغرب عقيلة صالح من الهجوم على قانون المحكمة وتعليق المشري العمل مع البرلمان بسببه، وقال في بيان نشره المكتب الإعلامي لمجلس النواب “إن إصدار مجلس النواب للقانون يأتي تأكيدا على حماية الحريات والحقوق، وإضافة قضاء متخصص في الشأن الدستوري”.
وفي معرض رده على المشري، شدد صالح على أن إنشاء محكمة دستورية من قبل مجلس النواب تأكيدا لما تضمنته مسودة الدستور التي توافق عليها أعضاء لجنة المسار الدستوري المُشكلة من مجلسي النواب والدولة ولم يتم الاعتراض عليها من أحد، بحسب قوله.
بدوره قال مقرر المجلس الأعلى للدولة بلقاسم دبرز لزوايا إن قرار تجميد العلاقات مع مجلس النواب اتخذ من مبدأ منع العبث الذي ينتهجه عقيلة والبرلمان بمساسهم بسلطة القضاء، والحد من ذلك، مبينا أن استقلالية القضاء لا يجوز المساس بها، مبينا أن ذلك يأتي من مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث.
وفي مقابل ذلك أبدى عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي خلال حديثه لزوايا امتعاضه من تعليق عمل المجلس الأعلى للدولة مع النواب ووصف ذلك بقوله “له ما له وعليه ما عليه” دون أن يوضح ذلك، مشيرا إلى أن العودة للجلوس على طاولة الحوار هي المخرج الوحيد للأزمة الليبية.
تأثير الخلاف على إنجاز القاعدة الدستورية
وتوقع بلقاسم دبرز أن الخلاف القائم بين المجلسين سيكون تأثيره محدودا ومؤقتا على إنجاز القاعدة الدستورية، في حال تراجع مجلس النواب عن قانون المحكمة، خاصة أنه جاء في ظرف استثنائي وأزمة سياسية تمر بها البلاد، معبرا عن مخاوفه من إحداث انقسام في سلك القضاء إن أصرّ النواب على تمريره وعدم العدول عنه.
وخلال حديثه لزوايا هاجم المحلل السياسي صلاح البكوش؛ خالد المشري قائلا إن قيام عقيلة صالح بتأسيس محكمة دستورية في خطوة أحادية الجانب أوضح بما لا يدع مجالا للشك أن مزاعم المشري حول وجود تغيير في سياسات عقيلة لم تكن سوى سراب.
وأضاف البكوش أن معارضة أكثر من خمسين عضوا داخل المجلس الأعلى للدولة لتماهي المشري مع عقيلة وتزايد الشكوك حول وجود صفقة بينها أدى ذلك كله لقرار مجلس الدولة بتعطيل المسار السياسي، مؤكدا أن هذا التعطيل يدعم ما ينادي به الموقعون على مبادرة 120 التي تدفع باتجاه كسر احتكار الجسمين للعملية السياسية.
من جانب آخر رأى المحلل السياسي عبد الله الكبير أن عودة القطيعة بين مجلسي النواب والدولة لن تقدم أو تؤخر على جهة القاعدة الدستورية.
الرئاسي يتدخل
وفي الأثناء، أطلق المجلس الرئاسي مبادرة لحل الانسداد السياسي وتهيئة لحوار دستوري ينهي المراحل الانتقالية من خلال اجتماع تشاوري بين المجالس الثلاثة “الرئاسي والنواب والأعلى للدولة” برعاية المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي.
وبحسب بيان نشره المكتب الإعلامي للمجلس الرئاسي، فإن المبادرة جاءت تماشيا مع بنود خارطة الطريق الصادرة عن حوار جنيف، وحرصا من المجلس على تحقيق توافق بين مجلسي النواب والأعلى للدولة لإصدار قاعدة دستورية تؤسس للانتخابات الرئاسية والنيابية.
ولكن عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي استبعد في حديثه مع زوايا أن يستطيع المجلس الرئاسي إنجاح حوار يقود إلى توافق المجالس الثلاثة، وقال إن المجلس محكوم باتفاق جنيف الذي أسند له مهمة المصالحة الوطنية دون أن ينجز فيها أي شيء.
وأشار العرفي إلى أن المجلس الرئاسي لم يتواصل من قبل ولم يحاول جمع الأطراف المختلفة في ليبيا، مؤكدا أن أعضائه فشلوا في قيادة المركب إلى بر الأمان، بحسب تعبيره.
بدوره، استبعد عبد الله الكبير أن تؤتي مبادرة الرئاسي أي نتائج ملموسة على مستوى الواقع المتأزم، مبينا أنها جيدة على مستوى الفكرة، لكنها لن تزيل تعنت الأطراف التي تصر على الاستمرار في المشهد.
وفي المقابل، أكد البكوش أن مبادرة الرئاسي هي محاولة لعقد صفقة بين المجالس الثلاثة للاستمرار في السلطة، موضحا أنه لا يمكن للرئاسي تسمية ما وصفها بـ”الصفقة” بالمبادرة، معللا بأن تعاون الرئاسي المستمر مع كل المجالس من صلب عمله وصلاحياته.
تشديد أممي على ضرورة حل الخلافات
من جانبه؛ شدد المبعوث الأممي عبد الله باتيلي على من أسماهم “الفاعلين السياسيين” بضرورة استئناف تعاونهم بجدية، والوفاء بالتزاماتهم السياسية والأخلاقية تجاه الشعب الليبي، والتغلب على هذا المأزق السياسي.
وأكد باتيلي في بيان نشره عبر تويتر -عقب إجراء مكالمة هاتفية مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي بشأن مبادرة الرئاسي- “أن الظروف المعيشية تدهورت في جميع أنحاء ليبيا بعد مرور ما يقرب من عام على تأجيل الانتخابات، مطالبا الليبيين باتخاذ إجراءات ملموسة تجاه الانتخابات من أجل اختيار قادتهم الشرعيين”.
وفي ذات الصدد قال صلاح البكوش إن على باتيلي بعد استكمال مشاوراته أن يخرج بخطة جريئة لإجراء انتخابات تشريعية لا تعتمد على القوى المسيطرة على المشهد في الفترة الراهنة، مؤكدا أن باتيلي إن تخلف عن ذلك سينضم إلى قائمة المبعوثين السابقين الذين تماهوا مع مجلسي النواب والدولة وحفتر وفشلوا بحسب وصفه.
وتوقع عبد الله الكبير أثناء حديثه لزوايا أن ينتظر باتيلي دعما دوليا لإطلاق حوار جديد يجمع من خلاله الفرقاء في ملتقى سياسي جديد على غرار ملتقى تونس وجنيف.
توافق دولي على إجراء الانتخابات
ويلوح في الأفق توافق دولي غير مسبوق يؤكد أن الحل في ليبيا يكمن في إجراء الانتخابات، حيث أكد السفير الألماني خلال لقائه بنائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي دعم بلاده لأي مسار من شأنه أن يدفع بالبلاد نحو انتخابات برلمانية ورئاسية.
هذا وأكدت القمتان العربية والخليجية مع الصين بالرياض بحضور الرئيس الصيني شين جين بينغ وولي العهد السعودي محمد بن سلمان دعمهما للجهود الساعية لحل الأزمة الليبية وفق قرارات مجلس الأمن، وتشجيع كل الأطراف الليبية على عقد الانتخابات.
فيما دعا وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، في مؤتمر صحفي جاء بعد اختتام أشغال ندوة الأمن والسلم في أفريقيا، المنعقدة في الجزائر، إلى التوصل إلى حل ليبي يشمل المصالحة الوطنية بين كل الليبيين، وهو ما يجب أن يتمخض عن انتخابات ديمقراطية تسمح للشعب الليبي باختيار قادته على جميع المستويات.